سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً} أي: شكًّا ونفاقا، {فِي قُلُوبِهِمْ} يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حُبب العجل إلى قوم موسى. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الكلبي: حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه. وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظا في قلوبهم.
{إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: تتصدَّع قلوبهم فيموتوا. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، وحفص: {تَقطّع} بفتح التاء أي: تتقطع. والآخرون بضمها. وقرأ يعقوب وحده: {إلى أن} خفيف، على الغاية، {تُقطع} بضم التاء، خفيف، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية. قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعتِ الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال: أشترط لربي عز وجل: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟
قال: الجنة، قالوا: رَبِحَ البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.
وقرأ الأعمش: {بالجنة}.
{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قرأ حمزة والكسائي: {فَيَقْتُلوُن} بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا، ويقتل الباقون. وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل. {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي: ثواب الجنة لهم وعدٌ وحقٌ {فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد، وبيَّنه في هذه الكتب. وقيل: فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أُمروا بالجهاد على ثواب الجنة، ثم هَنَّأهم فقال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا} فافرحوا {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك.
وقال قتادة: ثَامَنَهُمُ الله عز وجل فأغْلَى لهم.
وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن. وعنه أنه قال: إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها.
ثم وصفهم فقال: {التَّائِبُونَ} قال الفراء: استؤنفت بالرفع لتمام الآية وانقطاع الكلام. وقال الزجاج: التائبون رفع للابتداء، وخبره مضمر. المعنى: التائبون- إلى آخر الآية- لهم الجنة أيضا. أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد، لأن بعض المسلمين يُجزي عن بعض في الجهاد، فمن كانت هذه صفته فله الجنة أيضا، وهذا أحسن، فكأنه وعد الجنة لجميع المؤمنين، كما قال: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء- 95]، فمن جعله تابعا للأول كان الوعد بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفة.


قوله تعالى: {التَّائِبُونَ} أي: الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق، {الْعَابِدُونَ} المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل: {الْحَامِدُونَ} الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء.
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يُدْعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء». {السَّائِحُونَ} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: هم الصائمون.
وقال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال عطاء: السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله. روي عن عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله».
وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم.
{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} يعني: المصلين، {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن الشرك. وقيل: المعروف: السنة، والمنكر: البدعة. {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} القائمون بأوامر الله. وقال الحسن: أهل الوفاء ببيعة الله. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.


{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} اختلفوا في سبب نزول هذه الآية.
قال قوم: سبب نزولها: ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، حدَّثني سعيد بن المسيب عن أبيه. قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: فقال: أي عمِّ قل: لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن مِلّةِ عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وأنزل في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهدُ لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تُعَيِّرني قريش، فيقولون: إنما حمله على ذلك الْجَزَعُ، لأقررت بها عينك. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث حدثني يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده عمه فقال: «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضَحْضَاحٍ من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه».
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، حدثنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: «استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت».

14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21